Menu




طالت العديد من الاتهامات للإدارة البابوية في الفاتيكان بالفساد والانغلاق وضيق الأفق. فما التغيرات الجديدة التي طرأت على الفاتيكان مع وصول البابا الجديد؟ في هذا التقرير المطول تستكشف الغارديان البريطانية هذه الاتهامات وتحاول الإجابة على السؤال.
إليك الحكاية كاملة كما نشرتها الغارديان
يبدو الرجل الذي يُمسك المفاتيح وكأنه يتجول داخل إحدى حكايات الجن. يقف أمام بابين شاهقين يزيد حجم مقرعتهما عن حجم رأسه. يرتفع صوت صلصلةٍ تُحدثها حلقة المفاتيح العملاقة التي يمسكها في يديه، بينما يتحسس طريقه نحو الحجرة رقم 401. يُدخل المفتاح في كوة قفل الباب، فيصدر رنين حاد مدوي. يبدأ الرجل في دفع الباب، فيسقط الضوء القادم من داخل الغرفة على حذائه.
في السادسة والنصف صباحاً تستيقظ مدينة الفاتيكان. وفي غضون ساعات قليلة، ستمتلئ غرفة "سالا روتوندا" -التي فتحها أليسيو سينسوني للتو- بالسياح. ولكن في هذه الساعة الباكرة يضج البناء بالعمال. أصوات أحاديثهم تتدفق عبر الممرات. وبمساعدة 4 من زملاءه، يستمر سينسوني في جولته لفتح 300 باباً آخر.
أشاد البابا فرانسيس مراراً منذ انتخابه في عام 2013 بشرف العمل؛ فهو نفسه عمل ذات مرة حارسا في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. في مجموعات، دعا البابا 4800 موظف بالفاتيكان، لإقامة القداس في بيت القديسة مارثا، وفي دار الضيافة الذي يقيم فيه. في يناير/كانون الثاني، عمّد ابنة سينسوني. فماذا يمكن للموظفين الذي يستعجلون لتسجيل حضورهم الصباحي بجهاز بصمة الحضور والانصراف، مروراً من أمام الحارس النائم -وهم يرتدون قلنسوات من ماركة "نورث فيس"- أن يخبروننا عن العمل إلى جانب الحبر الأعظم؟
ذكاء البابا فرنسيس يكمن في توصيل رسالة المسيح بأن يبدو هو نفسه مجرد إنسان. وقد أضفى على الخطاب الديني مسحةً دنيوية عبر استخدام نبرة ثورية. ويُعرف بأنه أول بابا يستخدم كلمة "مثلي الجنس" (عندما قال "إذا كان الشخص مثلي الجنس ويبحث عن الرب ولديه نيةٌ طيبة فمن أنا لأحكم عليه؟"). كما وصف الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء بـ "الفضيحة الحقيقية". ونصح الكاثوليكيين بأنهم ليسوا في حاجة إلى التكاثر "مثل الأرانب"، فضلاً عن وصفه للقساوسة الذين يرفضون تعميد أطفال الأمهات العازبات بـ"الحيوانات". كما غسل أقدام السجناء الشباب. ومن أجل هذا يُعد البابا فرنسيس قدوةً حية للمسيحيين.
أليسيو سينسوني حامل المفاتيح
إن كان سلفه السابق، البابا بندكت، يعد متحفظاً وأكاديمياً، فإن البابا فرنسيس يلجأ دائماً للابتسامة العريضة ويتمسك بالرضا. ورغم النظرة السائدة إليه بكونه متحرراً، إلا أن إصلاحاته للإدارة البابوية -التي انتقدها على عزلتها- تسير ببطء.
وعلى الرغم من الليبرالية الواضحة في خطبه، تبقى التعاليم الرسمية في منأى عن تلك الليبرالية في أغلب الأحوال، إذ لا تزال عمليات الإجهاض "شراً مطلقاً"، وأفعال المثليين تُعتبر خطيئة، وزواج المثليين مُعارَضاً بشدة. نجح فرانسيس في تمرير جدول أعماله الجذري عن طريق وضع فكرة "الرحمة" في كل ما يفعل: في الكثير من خُطبِه، وفي تصريحاته، وحتى في "اليوبيل الاستثنائي" لهذا العام. يجد هذا الخطاب شعبية بين العلمانيين (من الذي لا يؤمن بالرحمة؟)، وقد سمحت تلك الرسالة للبابا بتجنب المواجهة مع القوى الأكثر تحفظاً في الكنيسة، من خلال تشجيع القساوسة المحليين على استخدام تقديرهم وحكمتهم الخاصة.
ولكن الفاتيكان لا يزال عالماً يلفه الكتمان، مثل عالم مصغر، ففي مساحة 0.44 كم مربع تجد كل المقومات التي تحتاج إليها الدولة، إلا أنها أصغر فقط. خلف متاحفه وكنيسة القديس بطرس، تخضع حدوده لحراسة مشددة. ثمة جدران عالية، فيما يقع البنك الشهير داخل قلعة قديمة. يماثل حجم عربات الإطفاء حجم الحافلات الصغيرة. في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، كانت السينما مشغولة، ولكن الكراسي الآن تبدو مكدسة ومهجورة. بل إن ثمة سجن صغير استخدم لاحتجاز الكاهن الذي أدين في يوليو/تموز لدوره في فضيحة تسريبات الفاتيكان التي فضحت سوء الإدارة المالية والفساد في قلب المدينة. يبلغ سعر الوقود في الفاتيكان 40 سنتاً فقط للتر الواحد، مقارنة بكلفته خارج حدود روما التي تبلغ 1.40 يورو.
تتزود سيارة بابا الفاتيكان بالوقود من إحدى المضخات الموجودة على جانب الطريق. يتحدث رينزو سيستيه، كبير سائقي البابا فرانسيس، متحدثاً إلى مرافق البابا. يقول سيستيه، الذي كان السائق الثاني لبندكت "كان لدينا أسطول مختلف تماماً آنذاك. وكان لدينا سيارة مرسيدس مصفحة، وسيارة مصفحة خاصة ببابا الفاتيكان، لكن البابا فرنسيس لا يريدهم، بل يريد التواصل مع الشعب. هل ترى؟" ثم رفع الغطاء ليكشف إحدى سيارات بابا الفاتيكان مظللة النوافذ. ويضيف "استخدم كل من يوحنا بولس الثاني وبندكت هذه السيارة، ولكن قداسة البابا لا يخشى شيئا". ولكن ماذا عن سائقه؟ أجاب السائق قائلاً "أنا لا أشعر بالخوف، إذا حدث ذلك، سنذهب إلى الجنة".
شعر سيستيه بأن وظيفته تتغير منذ اليوم الأول، حين أُرسل لنقل بابا الفاتيكان المنُتخب حديثاً من دار الضيافة الخاص به في وسط روما، وقف ينتظره في السيارة المرسيديس بالمدخل. وقال "اندفع أحد المسؤولين إلى الخارج وقال لي: خذها بعيداً. لأن البابا أراد أن يستقل الحافلة مع الكاردينالات. وقال "هل تمانع إذا ذهبت مع أصدقائي؟" لم نكن نعرف وقتها أنه يكره الرفاهيات، ولم نفكر حينها في أن هذه السيارات لم تُصنع لأجله".
وظائف النظافة والصيانة تنتقل من جيل إلى جيل داخل العائلة الواحدة
في الأسابيع القليلة الأولى، حضر سيستيه البالغ من العمر 62 عاماً والذي يعمل في الفاتيكان منذ أن كان في الرابعة عشر من عمره ليؤدي عمله مع السيارات الفاخرة، ثم زار البابا المرآب ليرى الاختيارات المتاحة بنفسه، واستقر على سيارة فورد فوكس زرقاء اللون وهي أصغر سيارات بابا الفاتيكان وأكثرها كشفاً. طرق سيستيه على غطائها وقال "بالنسبة لنا هو شيء رائع؛ فقداسة البابا متواضع جداً" والآن تقف سيارة بندكت المرسيدس في نهاية المرآب، بينما غُطِي سطحها بغطاء بلاستيكي ذي فقاعات.
يفتح سيستيه درج سيارة البابا، حيث توضع منشفة بيضاء لتجفيف البابا في الأيام الممطرة، قائلاً أنه من المعتاد أن تتميز السيارة بشعار النبالة البابوي، ولكن الطلاء يلمع بالشعار الذهبي لبندكت. وعن ذلك يقول "لا يُحب البابا فرنسيس الشعارات"، ويضيف أنه يصر أيضاً على إغلاق بابه بنفسه. سيستيه أشار إلى "خدم" البابا لكنه تراجع عما قال مصححاً الكلمة بمساعديه. ويضيف قائلاً "لا يريدنا أن ندعوهم بالخدم، لأننا جميعاً سواسية. نحن الشعب الذي يتعاون معهم".
يعد البابا من الركاب الهادئين الذين يتجنبون راديو السيارة، حسب ما يقول. ولكن بين الحين والآخر، ينظر سيستيه في المرآة ويرى راكبه مُحدقاً. يضيف "أتجنب النظر في عينيه" مباشرة. فعندما تلتقي عيناه بعيني فرانسيس "يبدو الأمر كما لو أنه في تلك اللحظة، ينظر إلى داخلك ويعلم حقيقتك". يصبح صوته أجشاً، ولا يقطع الصمت سوى نغمة هاتفه التي يضبطها على أغنية باري وايت Can't get enough of your Love, Babe.
حين سُئل سيستيه عن أكبر التغييرات التي حدثت منذ انتخاب فرنسيس، كانت إجابته واقعية بشكل مدهش: إنه التوازن بين حياته وعمله. فعلى عكس سائق بندكت السابق الذي "كان دائماً متواجداً هنا، كل يوم، وفي كل العطلات"، حسب ما يقول سائق فرنسيس، يعمل سيستيه ست ساعات فقط. ويوضح قائلاً "لم يكن قداسة البابا ليرضى بهذا. إنه أول من يقول: لمَاذا لم تسترح اليوم؟"
فريق من 80 عامل يقوم بصيانة قطع الفاتيكان الثمينة
تستغرق المسافة بين مرآب السيارة التي يقودها سيستيه والقصر الرسولي الفخم خمس دقائق، يمر خلالها من أمام سيارات الإطفاء حيث يتكئ رجال الإطفاء على غطاء محركات السيارات. وقد عاش بندكت في هذا المكان عندما كان يشغل منصب البابا، وهو أيضاً المكان الذي يعقد فيه فرنسيس اجتماعاته. أشعة الشمس تتدفق من النافذة، لتشكل تشابكاً بين الظلال على الجدار. تلمع ممرات الدهاليز من نظافة المكان، وينتشر النسيم الهادئ بعطره الخافت. ويقطع ذلك المشهد الهادئ صوت خطى أقدام تقترب، ليظهر بعد ذلك الحارس السويسري بأحد أركان المكان. يقول الحارس إنه لا يتكلم أثناء تأدية عمله (وفي الظهيرة سيقود فريقه "غارديا إف سي" في مباراة كرة قدم أمام فريق جيبسي)، لكنه يعدنا أن نجري معه مقابلة في الغد.
في قاعة سالا ريجا، وهي حجرة انتظار كبيرة تابعة لكنيسة سيستينا، يجمع العمال لوحات لبابوات القرن التاسع عشر، في صناديق لإزالتها بعد عرضها. وتقع غرفة المقدسات الرسولية، المعروفة باسم "الَمْوِهف" قبالة تلك القاعة مباشرة، حيث يتسلى القس السلوفاكي بافل بندكت، الذي لا يتحدث كثيراً، بهاتفه الذكي. إنه راعي هذا المكان، والهدوء يسود هنا. وفي غضون ساعة، رن جرس الهاتف مرة واحدة. تصطف الخزائن المصقولة بجوانب الغرفة، فضلاً عن عدد من الأبواب الخشبية تشبه في هيئتها خلية النحل، إذ يوضع كل شيء في المكان المخصص له، ويمتلك كل مكان منهم لوحة أو ملصقاً لتوضيح ماهيته. تُصنف الأردية الكهنوتية حسب المقاس (البابا فرنسيس يرتدي مقاس 3، وهو المقاس الأشهر)، كما تتوشح الأدراج بشرائط منقوشة ذات طراز قديم، إذ يكتب عليها بالإيطالية "لأجل البابا"، وأيضاً "الشيلان والدُثر".
يحظى الأب بافل بمساعدة الأب جيسوس بولينتينو، الفنزويلي صاحب الثلاثين عاماً. وقد عُيِن الأب جيسوس بعد انتهاء عهد بندكت، فلا شك إذن أن انتخاب البابا الأرجنتيني حمل بشرى له. وعن ذلك يقول "إنه أول شخص من أميركا اللاتينية يُنتخب لمنصب البابا". ويضيف "لقد ذهبوا إلى آخر العالم لكي يجدوه. ويعني ذلك الأمر أنه حتى نحن الذين قدمنا من آخر العالم، يمكننا أن نصل إلى قلب تلك الكنيسة".
أو ربما تحمل تلك الإشارة تفسيراً مغايراً لذلك؟ فهل قلب الكنيسة ومركزها، هو الذي يتحرك إلى الخارج؟ يقول الأب بافل "ثمة تغيير طفيف في الأسلوب". ثم يسحب بعد ذلك صولجاناً يحمل الصليب المائل من الخزانة القريبة ليضعه بالقرب من الصولجان الأصلي الذي نُسخ منه. أخرجت تلك الصولجانات التي تحمل الصليب من الخدمة خلال فترة بندكت، إلا أنه أعيد إحياؤها مرة أخرى رغم نفور بعض الكاثوليكيين منها؛ لأنهم يرون تصوير معاناة المسيح أمراً وحشياً. يقول الأب بافل إن نظرنا إلى الأمرين سنجد "أنهما نفس الشيء تقريباً"، وهما كذلك في الحقيقة، ربما تبدو قدما المسيح في نسخة البابا فرنسيس أكثر نحافة. كما أشار إلى أن معاناة المسيح ليست شيئاً ينبغي أن ينأى عنه.
المصلح
يحل وقت الذروة بالفاتيكان في السادسة صباحاً. إذ تصطف السيارات بطول الطريق خلف قصر الحاكم، وهو مبنى يشبه إلى حد ما مبنى البلدية، والذي رُسمت حديقته على نفس صورة شعار الفاتيكان في عهد البابا فرنسيس، أو ربما زُرعت قبل أن يعبر عن رغبته في الإبقاء على هذا الشعار بعد ترسيمه. تُفرّغ الراهبات عربات التسويق داخل صناديق السيارة بجوار المركز التجاري، ويتجمع الحشد في صيدلية الفاتيكان التي تحمل إحدى أرفف العرض به عينات من مستحضر "أفين" Avène للعناية بالبشرة. ينتشر الهواء ثقيلاً خارج ثكنات الحراس السويسريين من جراء رائحة العرق ومزيلات العرق. وقد أنهى الجنود الصغار الذين يحرسون البابا للتو مباراة لكرة القدم.
يشير إلينا الأب فيديريكو لومباردي (73 عاماً)، خارج بوابات الفاتيكان مباشرة، ليصطحبنا خلال الطريق إلى مكتبه، حيث نصعد عبر سلالم من الرخام من خلال غرفة الممتئلة من أرضيتها وحتى السقف بصناديق من الورق والحبر .خدم الأب فيدريكو في الكنيسة منذ عشرة أعوام وحتى الآن في منصب المتحدث الرسمي (على الرغم من رفضه ذلك اللقب، لأن "البابا يمكنه التحدث نيابة عن نفسه"، حسبما يقول)، إذ عمل مع البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بندكت السادس عشر، وأيضاً مع البابا الحالي للفاتيكان.
وعند سؤاله عما يبدو عليه البابا فرنسيس، أجاب وهو يجلس على كرسيه الدوار قائلاً "إنه بركان. فتلك الديناميكية لا يتوقعها أحد. حتى البابا نفسه! إنه مبدع ولديه العديد من المبادرات".
وتتضمن تلك المبادرات اختيار البابا إطلاق "عام الرحمة المقدسة" في كاتدرائية بانغوي بجمهورية أفريقيا الوسطى، وليس من روما. وتلا ذلك استقباله لـ11 مهاجراً سورياً من جزيرة لسبوس في أبريل/ نيسان. ناهيك عن ذكر المؤتمرات الصحفية المفتوحة التي يقيمها، وتنشيط مجلس الأساقفة الذي يعمل على تفويض السلطة إلى الأقاليم، وأيضاً مجلس مستشاري الكاردينال المُكلّف بإصلاح الإدارة البابوية. وصف لومباردي فرنسيس بـ "الديناميكية" 12 مرة خلال ساعة، ولكن هل يمكن أن يصف الحبر الأعظم بأنه إصلاحي؟
يجيب لومباردي بينما يضم كفي يديه كأنه يحيط بهما مدينة صغيرة "لنقل إنه أمدنا بقوة دفع كبيرة كي يضعنا على الطريق، أليس كذلك؟ فعندما يتحدث عن "خروج" الكنيسة، فهو يعني بذلك كنيسة ليست قابعة داخل الجدران لتدافع عن نفسها وتحمل مرجعيتها الذاتية". ويضيف قائلاً "إن هذا على وجه التحديد هو الشعور الذي أمدنا به. فالكنيسة تسير على الطريق، وحسب ذلك الشعور الذي ينتابني، يمكنني قبول تعريفه بالإصلاحي".
يمكنك أن تشعر بأن ذلك البركان هادئ عندما يتحدث لومباردي، غير أن ذلك الحذر يصاحب الأرض المحيطة بأي بركان أيضاً. يقول أوستين أيفريغ، مؤلف كتاب "البابا فرنسيس، المصلح العظيم" إن ثمة ما يمكن تسميته بـ"حرب العصابات" تدور بالمكان. ويضيف قائلاً " إن الأقسام المختلفة لديها إقطاعيتهم الخاصة .وهذا هو الأمر الذي يسعى لتغييره". في عهده صارت 9 فرق اتصال فريقاً واحداً. وفي هذا الشهر أيضاً سوف يندمج المجلس البابوي لشؤون العلمانيين والمجلس البابوي لشؤون الأسرة -اللذين كانا دائماً متشابكَين- في كيان واحد يسمى المجلس البابوي لشؤون العلمانيين والأسرة والحياة. وسوف تتبع المجالس الأخرى نفس النهج. ويصف أيفريغ ذلك الأمر بـ"أكبر إعادة تصميم للإدارة البابوية خلال 30 عاماً. والسبب الذي يجعله تغييراً جذرياً يكمن في أن فرنسيس يقدم نموذج الزمالة الذي يسمح للكنيسة المحلية بأن تمتلك تأثيراً أكبر. وستعمل عملية إعادة ترتيب الفاتيكان على جعل بنيته أكثر تركيزاً وأقل حجماً".
كما ينتظر أن تشهد الأيام القادمة إصلاحاً مالياً حاسماً. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أسند الفاتيكان مهمة المراجعة الخارجية لحساباته إلى شركة برايس ووتر هاوس كوبرز. إلا أن التدقيق الذي تجريه الشركة توقف في أبريل/نيسان الماضي، وأعلن الفاتيكان منذ ذلك الحين أن مكتب المراجعة العام الخاص به، والذي أسسه البابا فرنسيس، سوف يجري عملية المراجعة مع الشركة من خلال قيامه بـ"دور مساعد".
يستبعد لومباردي الحديث عن تلك الأمور، إذ يصفها قائلاً "إنها مناقشات شديدة الخصوصية. لست متأكداً إن كانت تستحق الخوض فيها أم لا. إن تعليق العقد مع شركة برايس وتر.."، يتوقف قليلاً أثناء الحديث، فعلى ما يبدو لم يتمكن من حفظ اسم الشركة، لكنه يستكمل حديثه مرة أخرى "إن تعاقدت مع شركة لمدة 3 أعوام بقيمة 3 ملايين يورو من أجل تفحص كل المؤسسات المركزية، فأنت في حاجة إلى إصلاح الأمور الشاذة".
كما يرى أن إصلاحات فرنسيس حققت "نتائج جزئية. شهدت أمور بعينها نتائجاً إيجابية، لكن بعض الأمور الأخرى لا تزال عالقة".
ما مدى صعوبة تحقيق التغيير؟ "مثلما يحدث تماماً في كل منظمات العالم. لقد قضيت 25 عاماً في هذا المكان. وأعلم كيف تتم الأمور ولماذا تتم. فإن أتى شخص ما وقال: سوف نغير كل شيء الآن، سأقول له:انظر، ربما لم تفهم بعد ما الذي نفعله ولماذا نفعله. ربما سأعبر عن اعتراضي في نقطة أو نقطتين. فهل يكون سبب تلك المعارضة أنني لا أريد تغيير شيئاً، أم لأنني ببساطة أريدك أن تفهم ما الذي نفعله ولماذا نفعله؟".
عمال زهور أثناء عملهم
في تلك اللحظة بدأ الكرسي الدوار الذي يجلس عليه لومباردي في الاهتزاز، كما أخذ كتفاه في الارتفاع والانخفاض في إحباط، وأردف قائلاً "إنني دائماً أرى أنه من التبسيط رؤية العالم منقسماً بين نوعين من البشر، وهما الأشخاص الذين يرغبون في تنفيذ الأمور بصورة أفضل، في مقابل الأشخاص الذين يقاومون لأنهم يرغبون في الاحتفاظ بسلطاتهم. فإن أتى أي شخص وقال ذلك عن الفاتيكان، سيقولون إنها حماقة. وربما من بين كل 3000 شخص، ستجد ثلاثة أو أربعة فقط من بينهم يقولون: إنني أفقد سلطتي! أما الآخرون سيقولون: لا، دعنا نناقش ما نريد تغييره، وفي ذلك الحين ينبغي أن يكون ثمة مناقشة".
يضرب المثل على ذلك من خلال تذكر بعض أسماء شركات الاستشارات التي استعان بها الفاتيكان، فيقول "عندما أتى هؤلاء الأشخاص إلى هنا، كان أمراً مثيراً بالنسبة إلي. فمثلاً شركة ماكنزي للاستشارات، عملت معهم بكل الود والراحة النفسية، ولكن في بداية الأمر لم يكونوا يعلمون شيئاً ببساطة. لم يكونوا يعلمون شيئاً عن موجات الراديو القصيرة! وليس لديهم أدنى فكرة عن ذلك، وفي المقابل نعمل من خلالها منذ 80 عاماً. هل يمكنك تفهم ذلك؟ إنه من الرائع أن نبدأ خططاً جديدة، ولكن ثمة حواراً ينبغي مناقشته".
ويستكمل لومباردي حديثه وهو يضحك "لقد أبهرتهم، وشعرت أنهم قد تعلموا مني أكثر مما علموني".
يتخيل المرء أن وظيفة مدير اتصالات البابا قد تبدو أصعب مع البابا فرنسيس، لا سيما أنه شخص متكلم. لكنه يقول عكس ذلك، إذ إنه يرى أن العمل مع البابا يوحنا بولس الثاني كان أصعب. يقول لومباردي "خلال الخمس أو الست سنوات الأخيرة له في كرسي البابوية، لم ينطق بكلمة واحدة. وبندكت أيضاً كان أقل ترابطاً مع اتصالاته، لذا فكان الأمر أصعب. أما البابا فرنسيس، فإنه يمتلك "هبة عظيمة" من خلال التحدث مباشرة. ويستطرد قائلاً إنه "يقول تلك الأشياء والعبارات الملفتة التي تقل عن 140 حرفاً، لذا فإنها تناسب تغريدات موقع تويتر. وفي مثل ذلك النوع من الاتصال، يكون فرنسيس الأفضل. فإنه يبدو كما لو أنه خُلق من أجل ذلك الغرض".
يلقي الليل بظلاله على المكان خارج نافذة مكتب لومباردي. وفي هذه الأثناء، يضيف قائلاً "بدلاً من السير في حالة لا مبالاة تامة، نشعر أن الكنيسة تتقدم خطوة لتتماشى مع الزمن. وقد جعلها فرنسيس أقرب إلى الحاضر، في خضم المعاناة والصعوبات التي تواجه البشرية اليوم".
إنهم يصيحون باسمه: فرانسيسكو، فرانسيسكو!
تتوافد الحشود إلى ساحة القديس بطرس. يصيحون ويغنون أغاني الأكابيلا. قريباً ينزل البابا فرنسيس من الدرج وأيادي المؤمنين سوف تحاول إمساك الهواء المحيط به. في تلك الأثناء، ستشاهد والدة رينزو سيستيه المشهد على التلفاز. ترتفع الهمهمات. رجل عجوز يدفع كرسياً متحركاً يجلس عليه ابنه كارميلو، الذي فقد السمع والحركة بعد تعرضه لسكتة دماغية، بينما يضع قبعة بيضاء بين يديه. يأمل الابن أن يرتدي البابا فرنسيس تلك القبعة. يصيح الناس: كارميلو! إلى هنا! إنهم يعلمون أن البابا فرنسيس سوف يأتي للمكان الذي يتواجد به الكرسي المتحرك.
البابا مع جمهوده في ساحة بطرس
تصدح أصوات الحشود الهادرة باسمه قائلين: فرانسيسكو! فرانسيسكو! يأتي البابا. جذبه كارميلو إلى المكان. يبدو البابا متحمساً ومشرق الوجه كما لو أنه ينتظر ذلك المشهد. ينحني، فتتأثر عيون الناس بانحناءته، ثم يحتضن رأس كارمليو بشدة، لتختفي أصابعه داخل شعر الشاب الكثيف. يلاحظ القبعة، فيبتسم ابتسامة ساحر ويخلع قبعته. في اللحظة التالية تحل البركة على قبعة كارمليو التي ارتداها البابا مكان قبعته. يضغط عليها بشدة ليتأكد أن البركات التي تخرج من رأسه سوف تلتصق بقبعة كارميلو. يبتسم مرة ثانية، يحدث شيئاً ما، ثم يعيد القبعة مرة أخرى، لتبدو ملامح السرور على وجهه كما لو أن البابا حظى بفرصة لمقابلة كارميلو وليس العكس.
تزأر الحشود. ويجفف الناس دموعهم. يحتضن البابا كارميلو، لينتاب الناس شعوراً أنه احتضنهم جميعاً. تصيح الحشود باسم جديد هذه المرة، فيقولون: كارميلو! كارمليو! يصعد البابا إلى سيارته الجيب، ويظهر سروال أسود اللون خلال عباءته البيضاء. وفي الحقيقة، يبدو أنه -السروال- يُشير إلى أنه رغم كل هذا مجرد كاهن أبرشية.
عند الحديث مع هؤلاء الذين عملوا مع فرنسيس، تزاد الحكايات التي يتداولونها عن الأمور الهامة التي يقوم بها والتي لا حصر لها (رغم أنه قد يرسل الراهبات للمساعدة في كي الملابس).
يعلم إليسيو سينسوني، الحارس الرئيسي، أن الإشاعات القائلة إن البابا يشجع النساء على الإرضاع في كنيسة سيستينا حقيقية. ففي حفل تعميد ابنة سينسوني، عندما كان الرضع يبكون، نظر البابا إلى الأمهات وقال "ألا تسمعون بكاءهم؟ أطعموهم بهدوء".
يقول فيليبو باتريجناني، الذي يعمل في مكتب حقوق المتحف "نعم، سمعت عن تلك الأمور. ولكن ثمة كثيراً من الحكايات المشابهة. مثل شرائه للقهوة من آلة بيع القهوة التي تعمل بالعملات المعدنية". يروي باتريجناني تلك الحكايات كما لو كانت نكاتاً. يضيف قائلاً "في الصيف الماضي قلت له: أيها البابا، إن الجو حار في روما. هل تريد أن تخرج من المدينة لأسبوع؟، فقال لي: وكم من الأشخاص الذين يمكنني إخراجهم من المدينة إذن؟ سوف نبقى هنا. والأموال التي نوفرها، ستذهب إلى الفقراء"".
في حكاية أخرى، عرض البابا فرنسيس كرسياً على أحد الحراس السويسريين. يقول الحارس نيكو كاستيلوزو "إنها حقيقة". يجلس كاستيلوزو وسط الفوضى التي يتسبب فيها الزوار بعد أن تناول وجبة الغداء مباشرة، وحول خصره قطعة من القماش الملون يلفها لكي لا يتسخ الزي الذي يرتديه من رذاذ صلصة المعكرونة التي يتناولها. يضيف الحارس "لقد كان الأمر كذلك عندما تناوبنا لحراسته في الليل خارج شقته. ودائماً يسألنا إن كنا نمنا جيداً. واستغرق الأمر منه فترة حتى أدرك أننا في الخدمة، وأننا في حاجة لأن نظل مستيقظين. فهو يسألنا بحسه الإنساني الكبير إن كنا نشعر بالجوع، أو إن كنا نرغب في الجلوس. ففي أول مناوبة ليلية لي معه، عرض علي قطعة بسكويت. كان طعمها لذيذاً، فهو بسكويت أرجنتيني".
قائد الحرس السويسري
ووفقاً للموقع الإلكتروني للحرس السويسري، يخفي كاستيلوزو تحت ذلك الثوب الملون "حارس أمني سويسري محترف وعلى أعلى مستوى". لذا، فمن المفاجئ أن نعلم أن الحراس لا يُطلب منهم الخضوع لتدريب وأنهم لديهم حظر تجول غير صارم حتى الثانية صباحاً (ولكنهم ينبغي أن يحلقوا لحاهم كل يوم). يقضي كاستيلوزو ساعات الوحدة أثناء أدائه للخدمة الليلية في قراءة كتاب. وعن ذلك يقول "لم أكن أبداً قارئاً عظيماً. لكني بدأت عندما انضممت إلى الحرس السويسري، لذا فإنني ما زلت أتدرب على قراءة الأشياء التي أحبها". وعلى الرغم من اختلاف الفاتيكان مع دان براون، انتهى الحارس من قراءة روايته "ملائكة وشياطين". يقول كاستيلوزو "حسناً. من الجيد أن تعرف الرأي المخالف لك".
هل تسبب ميل البابا فرانسيس لدخول الحشود في شعور كاستيلوزو بالقلق؟ يجيب الحارس قائلاً "الأمن أكثر تعقيداً. البابا فرنسيس قريب جداً من الناس. إنه يعرف مدى الخطر الذي ينجم عن ذلك، ولكنه لا يزال يرغب في القيام به". الحرس السويسري يعمل مع رجال الدرك أو الشرطة العسكرية في إيطاليا. يقول كاستيلوزو "لكن إذا أراد أحدهم أن يفعل شيئاً، فسوف يجد الوسيلة بالتأكيد. علينا أن نصلي كثيراً".
من ثكنة الحرس، يلتف الطريق حول الجزء الخلفي من كنيسة القديس بطرس للوصول إلى قسم الصيانة بالكنيسة، وبالقرب من ركن المدخنين وآلات البيع. هنا، يساعد بيترو زاندر في الإشراف على عمال النظافة والصيانة (وظيفة والد رينزو سيتستيه، وجده، وجده الأكبر). يقول زاندر "نواصل ما بدأه الذين سبقونا". كنيسة القديس بطرس بالنسبة لزاندر ليست ما يراه الزوار. هناك 22 ألف متر مربع من الأرض يتم تنظيفها يومياً. عندما يدخل شعاع الضوء من النافذة، يرى زاندر "خيوط الصوف والشعر، وكل الأتربة". إنه يعرف الكنيسة شبراً شبراً، على اتساعها. ولكنه أيضا يعتبرها بيته.
البابا فرانسيس، الذين يعتبره زاندر جاراً له، يحب أن يحيي عمال النظافة في الكنيسة، ولكن هناك أمثلة أخرى لتداخل الجانب التعبدي مع ما يدعوه زاندر "الضروريات الطارئة". على سبيل المثال، عندما احتاج يوحنا بولس الثاني قبراً، كان قسم زاندر هو من حل المشكلة، عن طريق نقل رفات البابا إنوسنت الحادي عشر. إذا لم يفعلوا هذا، كانت ستحدث "مشكلة في حركة المشاة؛ لأن التدفق الهائل للمشيعين كان سيتسبب في اختناقات".
دخل زميل مكتبه، وسأل زاندر "هل رأيت هذا؟" رافعاً مصباحاً قديماً. أعجبته الشبكة المعدنية التي تحمي زجاج المصباح. قال "إذا انكسر المصباح، فلن يسقط الزجاج. وإذا انكسرت الشبكة، فلن تقع، انظر ... " وأشار إلى قطعة معدنية صغيرة تعمل بمثابة قفل أمان إضافي. يقول زاندر "إن أحد مبادئ العمل بشكل صحيح في ساحة القديس بطرس هو أن ننظر إلى ما تم إنجازه من قبل. هذا هو طريق الوصول إلى الكمال". وضع المصباح على الطاولة. هناك صدى لدفاع الأب لومباردي عن حق الإدارة البابوية في الارتياب من التغيير؛ كلاهما يرى أنه يجب التمسك بالماضي لحماية مستقبل.
السائق رينزيو سيتيه
ينقسم نقاد البابا فرنسيس إلى معسكرين: بعضهم يعتقد أنه يسعى إلى التغيير أكثر من اللازم، والبعض الآخر يرى أن عليه أن يفعل أكثر من ذلك. يحدث الإصلاح ببطء، وعلى نحو متفاوت. تبدو تعليقاته ولفتاته كما لو كانت تقدمية، ولكن في نواحٍ أخرى -في مواجهة قضية التحرش بالأطفال، على سبيل المثال، أو التعامل مع الإصلاح المالي- يُعتقد أنه لا يتحرك بما فيه الكفاية. إذ أدى نقل السلطة للكنائس المحلية إلى تزايد نفوذ كل من الاتجاه المحافظ والاتجاه الليبرالي. وكما قال البابا في خطاب عيد الميلاد الماضي، "لا يمكننا أن نفعل كل شيء، ومع ذلك، خطونا خطوة على أول الطريق".
لابد أنه من الصعب إصلاح مؤسسة حينما يُنظر إلى ماضيها على أنه مستوحى من العناية الإلهية. ولكن ابتسامة البابا فرانسيس تدل على أن لديه المزيد ليقدمه، ففي التاسعة والسبعين من عمره، حسب ما يقول الأب لومباردي، "لديه طاقة غير متوقعة من شخص في نفس العمر، سألته كيف يفعل ذلك، فأجابني: حسناً، يعطيني الله القوة للقيام بذلك. ويقول أصدقاؤه الأرجنتينيون: نحن لم نتعرف عليه! يبدو أصغر بعشرين سنة مما كان عليه عندما غادر. في سنواته الأخيرة في بوينس آيرس، بدا كما لو أنه يستعد للتقاعد. وبدلاً من ذلك، انطلق مرة أخرى. وهو يقودنا جميعاً إلى الأمام".

إرسال تعليق

 
Top