Menu

                                         


                                          خصائص الحضارة الإسلامية
ولكلّ حضارة جسم وروح، كالإنسان تماماً، فجسم الحضارة يتمثّل في منجزاتها المادية من العمارات والمصانع والآلات، وكل ما ينبئ عن رفاهية العيش ومتاع الحياة الدنيا وزينتها، أما روح الحضارة فهو مجموعة العقائد والمفاهيم والآداب والتقاليد التي تتجسّد في سلوك الأفراد والجماعات، وعلاقاتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى الدين والحياة، والكون والإنسان، والفرد والمجتمع(13). ومن تلك العناصر تتشكّل خصائص الحضارة الإسلامية.
وتتفرّدُ الحضارة الإسلامية بخمس خصائص تُكسبها الطابع المميّز لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي وفي الحاضر على السواء، وهي :
الخاصية الأولى : أنها حضارة إيمانية، انبثقت من العقيدة الإسلامية، فاستوعبت مضامينَها وتشرّبت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارةٌ توحيديةٌ انطلقت من الإيمان باللَّه الواحد الأحد، البارئ المصوِّر، مبدع السماوات والأرض، الأول والآخر، الباطن والظاهر، خالق الإنسان والمخلوقات جميعاً. هي حضارةٌ من صنع البشر فعلاً، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعهاوازدهارها.
الخاصية الثانية : أنها حضارة إنسانية المنزع عالميةٌ في آفاقها وامتداداتها، لا ترتبط بإقليم جغرافي، ولا بجنس بشري، ولا بمرحلة تاريخية، ولكنها تحتوي جميع الشعوب والأمم، وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع، فهي حضارة يستظل بظلالها البشرُ جميعاً، ويجني ثمارها كلُّ من يصل إليه عطاؤها. فالحضارة الإسلامية قامت على أساس الاعتقاد بأن الإنسان أهمّ مخلوقات الله، وأن جميع الأنشطة البشرية لابد وأن تؤدي إلى سعادته ورفاهيته، وأن كلَّ عمل يُقصد به تحقيقُ هذه الغاية، هو عملٌ في سبيل الله، أي عمل إنساني في المقام الأول.
الخاصية الثالثة : أنها حضارة معطاء؛ أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم، وأعطت عطاء زاخراً بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي وبقيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدة الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي، أو أبيض وأسود، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية، أم ممّن لا دين لهم من أقوام شتَّى كانوا يعيشون في ظل الحضارة الإسلامية.

الخاصية الرابعة : أنها حضارة متوازنة؛ وَازَنَت بين الجانب الروحي وبين الجانب المادي، في اعتدالٍ هو طابعٌ من طوابع الفكر الإسلامي، وميزةٌ من مزايا الحضارة الإسلامية في كل العصور، فلا تفريط ولا إفراط، ولا غلوّ بغير وجه حق، ولا اندفاع في تهوّر، وإنما هو الاعتدال الذي هو من صميم العدالة التي تقام في ظله موازين القسط.
الخاصية الخامسة : أنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض، تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين الحنيف. وهي بذلك حضارةٌ ذات خصوصيات متفردة، فالحضارة الإسلامية لا تشيخ لتنقرض، لأنها ليست  حضارة قومية، ولا هي بعنصرية، ولا هي ضد الفطرة الإنسانية، والإسلام لا يتمثّل في المسلمين في كل الأحوال، لأن المسلمين قد يضعفون ويقّل نفوذهم ويتراجع تأثيرهم، ولكن الإسلام لا يضعف ولا يقلّ نفوذه ولا يتراجع تأثيره. وهي بذلك حضارة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتَتَجَدَّدُ دوراتها.
وهذه الخصائص الخمس تكتسب طابع الديمومة والاستمرار، من مبادئ الدين الحنيف، لأنها نابعةٌ منها، ولصيقةٌ بها، وهي بذلك بمثابة الجوهر النفيس الذي لا يتبدل ولا يتغيّر، وإن تبدلت الأحوال، وتَجاذبت المجتمعات الإسلامية نوازعُ القوة والضعف، والسطوع والأفول، والتماسك والانهيار.
لقد قادت الحضارة الإسلامية مسيرة العلم والمعرفة في القرون الوسطى التي تعدّها أوروبا عصور الظلام، بينما هي عصور التنوير في تاريخ أمتنا.
وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى أن جورج سارتون قسّم  في كتابه "Introduction to the History of Science" النشاطَ العلميَّ على مدى التاريخ، إلى فترات تستمر كل منها نصف قرن، وذكر اسم شخص يرمز لكل نصف قرن على مستوى العالم، فمن سنة 750م إلى سنة 1100م، على مدار 350 سنة، كان كل العلماء الرامزين من العالم الإسلامي : جابر بن حيّان، والخوارزمي، والرازي، والمسعودي، وأبو الوفاء، والبيروني، وعمر الخيام، كانوا مسلمين، عرباً وأتراكاً وأفغاناً وفرساً، نبغوا في علوم الكيمياء والرياضة والطب والجغرافيا والطبيعة والفلك. وفي سنة 1100م،  ولمدة 250 سنة أخرى، ابتدأ اشتراك الأوروبيين مع علماء العالم الإسلامي، أمثال ابن رشد، والطوسي، وابن النفيس، وفي تلك الف ترة قامت النهضة الأوروبية الحديثة
التي بدأت بترجمة علوم العالم الإسلامي ودراستها والإضافة إليها، حتى يومنا هذا. وتلك هي الحقيقة التاريخية التي يشير إليها ويؤكدها العالم العربي المسلم المقيم في ألمانيا، الدكتور محمد منصور الذي اختير من بين ألفَيْ شخصية عالمية تركت بصماتها على الحياة الإنسانية خلال القرن الماضي بمبادرة من جامعة كمبردج (14).
وإذا كانت الحضارة في مفهومها العام،هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية (15)، فإن الحضارة الإسلامية هي ثمرةُ جهود الأمة الإسلامية جميعاً وعبر العصور التي بذلتها  في تحسين الحياة وإسعاد الإنسان.
وإذا كانت الحضارة هي ردّ فعل الحاجات البشرية، فإن الحضارة الإسلامية استجابت لهذه الحاجات جميعاً في جميع العصور، وكانت هي حضارةَ العالم ـ دون منازع ـ لعقود كثيرة. وبذلك تكون الحضارة الإسلامية هي صاحبة الفضل في إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوروبية الحديثة حيث أسهمت بكنوزها في الطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفيزياء، في الإسراع بعصر النهضة وما صحبه من إحياءٍ للعلوم المختلفة لم يقف عند حدّ، بل انطلق حتى أثمر كثيراً، ولايزال يثمر إلى اليوم.
واقع الحضارة الإسلامية
واقع الحضارة الإسلامية اليوم لا يعبّر عن المكانة التي ينبغي أن تتبوأها الأمة الإسلامية، ولكن مع ذلك لا يسيغ لنا هذا الوضع، أن نحكم على الحضارة الإسلامية بالانهيار، لأننا بذلك سنكون مندفعين مع الأحكام الارتجالية، وغير منصفين وأبعد ما نكون عن الدقة في وصف الحال.
إن ثمة العديد من الأدلة والقرائن على بطلان النظرية التي تقول بانهيار الحضارة الإسلامية أو سقوطها أو اضمحلالها بتراجع الأمة الإسلامية عن مواصلة أداء دورها في إغناء الحضارة الإنسانية الحديثة.
ولقد كان المفكر المصري فؤاد محمد شبل الذي ترجم (مختصر دراسةٍ للتاريخ) لأرنولد توينبي، من الأوائل الذين فطنوا إلى الدلالة العميقة لمعنى انهيار الحضارات، حيث يقول : (إن الانهيار لا يعني تماماً أن المقصود به نهاية مرحلة الارتقاء، إذْ لا يشير التاريخ إلى أية حدود لفترة الحياة الممكنة لمجتمع، وإن نهاية فترة الارتقاء التي هي حادث طبيعي في تاريخ الكائن الحي، هي حادث غير طبيعي في تاريخ المجتمع. وقد استخدم توينبي اصطلاح (الانهيار) للدلالة على هذا المعنى. وسيتبين أنه عندما يستخدم الاصطلاح بهذا المعنى، فإن طائفة من أهم الأعمال المثمرة النيّرة والمشهورة في تاريخ حضارة ما، قد جاءت في أعقاب الانهيار ـ أو بالفعل ـ نتيجة له) (16).
وهذه رؤيةٌ عميقة بعيدة المدى إلى طبيعة الحضارات الإنسانية المتعاقبة ننظر من خلالها إلى واقع الحضارة الإسلامية اليوم في آثارها ونتائجها وامتداداتها.
إنّ التأمل العميق في واقع العالم الإسلامي اليوم، مع تجاوز الأحداث العابرة والمتغيّرات الآنية واختراق المظاهر السطحية، يُفضي بنا إلى نتائج قد تبدو غير متفقة مع طبائع الأشياء الظاهرة، ومع منطق الأحداث الجارية، ولكننا إذا سلمنا بأن مصير الحضارات لا يرتبط بالوقائع التاريخية في فترات زمنية محدودة، ولا يتقرر هذا المصير وفقاً للنتائج المترتبة على مضاعفات الأزمات التي تلمّ بالمجتمعات، نستطيع أن نصل إلى الاقتناع بأن الحضارة الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، هي في حالة تأهب حضاري، للانطلاق نحو استئناف دورة حضارية جديدة مع الألفية الثالثة، يؤكد ذلك كلَّه، الإرهاصات التي نشاهدها على أكثر من مستوى، والتفاعلات العميقة التي تعيشها الأمة الإسلامية والتي لابد وأن تنتهي إلى مبادرات إيجابية ستكون حاسمةً في تقرير مصير العالم الإسلامي، بل نستطيع أن نقول عنها جازمين واثقين، إنها ستكون حاسمة في تقرير مصير العالم كلِّه.
إن الضعف العام الذي يعاني منه العالم الإسلامي في مجالات كثيرة، وانخفاض معدّلات النموّ الذي يطبع الحياة الاقتصادية والاجتماعية في معظم المجتمعات الإسلامية، هو ضعفٌ عارض، وهو مرحلة عابرة لن تطول، ستعقبها مراحل أخرى، لأن تلك هي سنةُ الكون وطبيعة الحضارات. ولأنَّ جذور الحضارة الإسلامية لاتزال سليمةً محافظةً على عناصرها الحيّة، والمسلمون هم المسؤولون اليوم، عن إنعاش هذه الجذور وإحيائها بضخ دمّ جديد في شرايين الحضارة الإسلامية، حتى تستأنف دوراتها، وتواصل عطاءها، وتقوم بدورها في إنقاذ الحضارة الغربية التي تعاني من أزمات شديدة لا سبيل إلى معالجتها وتجنَّب البشرية كوارثها المحتملة، إلاّ بتطعيمها بمبادئ الحضارة الإسلامية ذات الروح الإيمانية والنزعة الإنسانية والرؤية المستقبلية.                
                                           
















إرسال تعليق

 
Top